نسيمكِ كمِسك الجنان ..
بقلم سعاد صائب سكيك
بقلم سعاد صائب سكيك
كزهرة الفل تفوح شذاها عبقاً في أوائل الربيع تزهر المحبة .. أراها كعروس تتلألأ بهجة بثوبها الأبيض .. كأميرة هدّت على صدر الكون .. جفونها تلمع أملاً .. وتنشر ابتسامة تُعطر القلوب ..
كانت جميلة عند نسائم الصباح .. توزع الأخوة على ساكنيها .. ساحرة بأصلها .. خلابة بطبيعتها .. معروفة بكرمها .. تتغنى بها كل البشر .. تصلي ليل نهار طلباً للموت على أرضها وبين أحضان ترابها .. تسقى العابرين شراباً من العزة .. وتجيب السائلين بكلمات الصمود .. أشجارها وكرومها تشهد لكرمها .. ملكة بلاد العالم .. مباركة هي أرضنا ..
كنا نلعب في حاراتها صغاراً .. نتقاذف كرة الهواء في برك الماء الورقية .. نسبح وسماؤها الزرقاء تُلَون الماء بعطر الطبيعة .. ونسماتها تداعبه فتنساب أمواج حنونة ترشق وجوهنا بقطرات من عبق الوطن .. كنا نتسابق ونختبئ ونلعب "الغميضة" .. نصنع طائرة الورق لتصحبها الرياح في رحلة بين السحاب .. تلامس القمم لتُكَحِل عينيها بشموخ العَلَم .. تستنشق الحرية القريبة ..
وطني كم أعشق حروف اسمك .. أعيش بين أحضانك بفخر .. أحمل ذكرياتي وأسير ما بين الطموح والعمل .. لازلت أذكر ذلك اليوم .. كنت صغيرة وقتها لكنني مدركة لبركتها .. لطهارتها .. لجمالها .. كانت القدس .. سرت بين أزقتها وشوارعها وحواريها .. شاهدت محلاتها ومبانيها .. لمست جدرانها .. مشيت بأسواقها .. وأكلت كعك الخبز المملح مع السمسم "له طعمه الخاص مهما قلدوا صنعه .. فهو من القدس .. من أمام الأقصى" .. وصلتها والآن لا أستطيع وصولها فبيننا حدود وأسوار وظلم سجّان .. صنع الأسلاك والجداران واستطاع أن يمنع تواصل الجسد بالأرض .. لكنه ما استطاع أن يمنع تواصل الأرواح .. فلِحُبنا وعزتنا وصلة أرواحنا بالأقصى والقدس قوة تخترق كل الحدود .. لن يقوى على مقاومتها أمهر الجنود .. فهي القدس يا بشر .. إنها القدس .. أتعلمون ماذا تعني القدس؟ .. يوم زرتها كان يصادف الجمعة .. صليت بالأقصى .. شاهدت المصلين المقدسيين إخوتي الذين يحرمني الاحتلال منهم وتشرفت بالصلاة إلى جانبهم .. بالقدس صليت ودعيت لنصرتها .. لتطهيرها .. تتجرد القلوب من الأهواء عندما تراها .. تذوب الحواس عند رؤية قبتها وتسبقك شوقاً للقائها .. كالملوك مرفوعة الرأس شامخة .. وردة نضرة .. عروس العواصم .. عاصمة الثقافة .. زرتها وأفتخر بزيارتها .. غادرتها وأنا أعلم أنني سأعود لزيارتها .. حتماً سأعود ..
وطني فاءُ فداء .. لامُ ليث .. سينٌ سلام .. طاءُ طرب .. ياءُ يُمن .. نونُ نور .. الحجر فيها نطق وتفجر .. فرش الأرض أسلحة تَلِدُ خناجراً في قلوب العدو الأخرق .. فرسانها أبطالٌ وهبوا أرواحهم فداءً لترابها .. دماؤهم طاهرة تروي الشجر فتنبت الصبّار أشواكاً في عُقْر دار ابن صهيون .. فدائيوها شجعان فتحوا صدورهم عارية لتلقي الرصاصات فخراً .. عزاً .. دفاعاً عنها .. جراحهم ترسم نوراً تبني ممراً على خيوط الشمس نحو الحرية .. تدنو يوماً بعد يوم من النصر المؤزر ..
في كل زاوية من أرضها حكاية .. تاريخ وأصالة .. حكايات عزتنا التي ترويها لنا جدتي .. أماكن تزين بلادنا بعبق التاريخ .. هي كحبة برتقال تلمع نقاءً في لونها .. تشع نضارة وضياءً .. وتحمل فوائداً .. معطاءة .. أبداً لا تتململ .. احتضنت الجميع .. لكن ما احتضنها الجميع .. لا يدركون أهميتها .. كورقة خريف أضحت .. تودع الشتاء بعد ارتشاف قطرة منه تنعشها للشتاء القادم عله يكون صبحاً منيراً بغيث الصحوة .. بعين مكسورة تنظر أبناءها ترجوهم سماع الصوت .. تنادى لكن صداه يعود مذبوحاً كطير راح ضحية قبل أن يستيقظ صحبه من سبات العقل والقلب .. يأبيان أن يستيقظا بأمر من حامليهما .. ظلموا العقل والقلب .. وما الذي يمنعهم من ظلم الطير "الوطن"؟ .. ورغم الأنين لازال الوطن ينادي .. لازالت فلسطين تنادي وكلها أمل بأن يصحو أبناؤها قبل أن تضيع بين ظلام الليل الذي يحيكه أعداؤها بمهارة وهم بغفلة تلهيهم أهواء التنظيمات .. وتنسيهم همَ الوطن .. وصرخات الأقصى .. وجراحات المعتقلين والأسرى .. ودماء الشهداء وآلام الأرامل والأيتام والثكلى .. نسوا أم تناسوا لا يهم .. ولازالت تنادي بصوت الموجوع وتأمل بأن يجيب الصدى .. ويعود بصوت قد صحا ..